فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى الدارقطني في آخر النذور من السنن عن جابر رضي الله عنه قال: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا، فقال لليهود: ما يمنعكم أن تقيموا عليهما الحد؟ فقالوا: كنا نفعل إذا كان الملك لنا، فلما أن ذهب ملكنا فلا نجتري على الفعل، فقال لهم: ائتوني بأعلم رجلين فيكم، فأتوه بابني صوريا، فقال لهما: أنتم أعلم من ورائكما؟ قالا: يقولون، قال: فأنشدكما بالله الذي أنزل التوراة على موسى كيف تجدون حدهما في التوراة؟ فقالا: الرجل مع المرأة زنية وفيه عقوبة، والرجل على بطن المرأة زنية وفيه عقوبة، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة رُجِم، قال: ائتوني بالشهود فشهد أربعة، فرجمهما النبي صلى الله عليه وسلم». انتهى.
وهذه الآية ملتفتة إلى آية {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة}- الآية والتي بعدها أي التفات وذلك أن هؤلاء لما تركوا هذا الحكم، جرَّهم إلى الكفر وليس في هذه الروايات- كما ترى- تقييد الرجم بالإحصان، وكذا هو فما هو موجود عندهم في التوراة، قال في السفر الثالث وغيره: ثم كلم الله موسى وقال له: قل لبني إسرائيل: أيُّ رجل من بني إسرائيل ومن الذين يقبلون إلى أيّ ويسكنون بين بني إسرائيل ألقى زرعه في امرآة غريبة يقتل ذلك الرجل فليرجمه جميع الشعب بالحجارة، وأنا أيضًا أنزل غضبي بذلك الرجل وأهلكه من شعبه، لأنه ألقى زرعه في غريبة وأراد أن ينجس مقدسي وأن ينجس اسم قدسي، فإن غفل شعب الأرض عن الرجل الذي ألقى زرعه في غريبة ولم يوجبوا عليه القتل أنزل غضبي بذلك الرجل وبقبيلته وأهلكه وأهلك من يضل به، لأنهم ضلوا بنساء غريبات لسن لهم بحلال، ثم قال: الرجل الذي يأتي امرأة صاحبه وامرأة رجل غريب يقتلان جميعًا، والرجل الذي يرتكب ذكرًا مثله فيرتكب منه ما يرتكب من النساء فقد ارتكبا نجاسة، يقتلان ودمهما في أعناقهما، والرجل الذي يتزوج امرأة وأمها فقد ارتكب خطيئة، يحرق بالنار هو وهما، والرجل الذي يرتكب من البهيمة ما يرتكب من النساء يقتل قتلًا، والبهيمة ترجم أيضًا، والمرأة التي ترقد بين يدي البهيمة لترتكب منها البلاء تقتل المرأة والبهيمة جميعًا، يقتلان ودمهما في أعناقهما، والرجل الذي يأتي امرأة طامثًا ويكشف عورتها، قد كشف عن ينبوعها وهي أيضًا كشفت عن ينبوع دمها، يهلكان جميعًا من شعبهما، وقال: والرجل الذي يأتي امرأة أبيه قد كشف هذا عورة أبيه، يقتلان جميعًا ودمهما في أعناقهما، والرجل الذي يأتي كنّته يقتلاه كلاهما، لأنهما ارتكبا خطيئة، ودمهما في أعناقهما، والرجل الذي يتزوج أخته من أمه أو من أبيه ويرى عورتها وترى عورته، هذا عار شديد، يقتلان قدام شعبهم، وذلك لأنه كشف عورة أخته، يكون إثمهما في رؤوسهما، لا تكشفن عورة عمتك ولا خالتك! لأنهما قرابتك، ومن فعل ذلك يعاقب بإثم فضيحته، والرجل الذي يأتي امرأة عمه قد كشف عورة عمه يعاقبان بخطيئتهما ويموتان، والرجل الذي يتزوج امرأة أخيه قد ارتكب إثمًا، لأنه كشف عورة أخيه يموتان، بل وصرح برجم البكر فقال في السفر الخامس فيمن تزوج بكرًا فادعى أنه وجدها ثيبًا: فإن كان قذفه إياها حقًا ولم يجدها عذراء تخرج الجارية إلى بيت أبيها، ويرجمهاه أهل القرية بالحجارة وتموت، لأنها ارتكبت حوبًا بين يدي بني إسرائيل وزنت في بيت أبيها، نحوّا الشر عنكم، وإن وجد رجل يسفح بامرأة رجل يقتلان كلاهما: الرجل والمرأة، بل صرح برجم البكر المكرهة فقال عقب ما تقدم: وإن كان لرجل خطيبة بكر لم يبتن بها بعد، فخرجت خارجًا فظفر بها رجل وقهرها وضاجعها، يخرجان جميعًا ويرجمان حتى يموتا، وإنما تقتل الجارية مع الرجل لأنها لم تصرخ ولم تستغث- انتهى.
فالأحاديث المفيدة بالإحصان في هذه القصة ينبغي أن تكون مرجوحة، لأن رواتها ظنوا أن الجادة الإسلامية شرع لهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى لليهود المنكرين لوجوب الرجم، وترغيب لهم في أن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم والأنبياء المبعوثين إليهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ}.
لمّا وصف التّوراة بأنّ فيها حكم الله استأنف ثناء عليها وعلى الحاكمين بها.
ووصفها بالنزول ليدلّ على أنّها وحي من الله، فاستعير النّزول لبلوغ الوحي لأنّه بلوغ شيءٍ من لدن عظيم، والعظيم يتخيّل عَاليًا، كما تقدّم غير مرّة.
والنّور استعارة للبيان والحقّ، ولذلك عطف على الهُدى، فأحكامها هادية وواضحة، والظرفية.
حقيقية، والهدى والنّور دلائلهما.
ولك أن تجعل النّور هنا مستعارًا للإيمان والحكمة، كقوله: {يخرجهم من الظلمات إلى النّور} [البقرة: 132]، فيكون بينَه وبين الهدى عموم وخصوص مطلق، فالنّور أعمّ، والعطفُ لأجل تلك المغايرة بالعموم. اهـ.

.قال الفخر:

العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فوجب حصول الفرق بين الهدى والنور، فالهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والتكاليف، والنور بيان للتوحيد والنبوة والمعاد.
قال الزجاج {فِيهَا هُدًى} أي بيان الحكم الذي جاؤا يستفتون فيه النبي صلى الله عليه وسلم {وَنُورٌ} بيان أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق. اهـ.
قال الفخر:
احتج القائلون بأن شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخًا بهذه الآية؛ وتقريره أنه تعالى قال: إن في التوراة هدىً ونورًا.
والمراد كونه هدىً ونورًا في أصول الشرع وفروعه، ولو كان منسوخًا غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيه هدىٌ ونور، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط، لأنه ذكر الهدى والنور، ولو كان المراد منهما معًا هو ما يتعلق بأصول الدين لزم التكرار، وأيضًا أن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم، فلابد وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة في الآية، لأنا وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا، لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلًا فيها. اهـ.
وقال الفخر:
قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} يريد النبيّين الذين كانوا بعد موسى، وذلك أن الله تعالى بعث في بني إسرائيل ألوفًا من الأنبياء ليس معهم كتاب، إنما بعثهم بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها.
فإن قيل: كل نبي لابد وأن يكون مسلمًا، فما الفائدة في قوله: {النبيون الذين أَسْلَمُواْ}.
قلنا فيه وجوه: الأول: المراد بقوله: {أسلموا} أي انقادوا لحكم التوراة، فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة، والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام.
الثاني: قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيمًا له، كقوله تعالى: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] وقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} [النساء: 45] وذلك لأنه كان قد اجتمع فيه من خصال الخير ما كان حاصلًا لأكثر الأنبياء.
الثالث: قال ابن الأنباري: هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون: الأنبياء كلهم يهود أو نصارى، فقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ} يعني الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه.
الرابع: المراد بقوله: {النبيون الذين أَسْلَمُواْ} يعني الذين كان مقصودهم من الحكم بالتوراة الإيمان والإسلام وإظهار أحكام الله تعالى والانقياد لتكاليفه، والغرض من التنبيه على قبح طريقة هؤلاء اليهود المتأخرين، فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام. اهـ.

.قال الثعلبي:

فإن قيل: وهل فينا غير مسلم؟
فالجواب أن هؤلاء نبيوا الإسلام لا على أن غيرهم من النبيين لم يتولوا المسلمين وهذا كقوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} [الفتح: 29] {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] لا يريد أن غيره من الأنبياء لم يؤمنوا باللّه وكلماته. وقيل: لم يرد به الإسلام الذي هو ضد الكفر. إنما المراد به الذين انقادوا لحكم اللّه فلم يكتموه كما كتم هؤلاء، يعرّض بأهل الكتاب.
وهذا كقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض} [آل عمران: 83].
وقال يزيد بن عمرو بن نفيل: أسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرًا ثقالًا، وأسلمت وجهي لمن أسلمت له العيون تحمل عذبًا زلالًا. وقيل: معناه الذين أسلموا أنفسهم إلى اللّه. كما روي إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أوى إلى فراشه: «أسلمت نفسي إليك».
وقيل: معناه: يحكم بها النبيون الذين أسلموا بما في التوراة من الشرائع ولم يعمل به كمثل عيسى عليه السلام وهو قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] وهو معنى قول ابن حيّان يحكم بما في التوراة من لدن موسى إلى عيسى عليهما السلام.
وقال الحسن والسدّي أراد محمدًا صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] وقال: أم تحسدون الناس في الحياة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

المراد بالّذين أسلموا الّذين كان شرعهم الخاصّ بهم كشرع الإسلام سواء، لأنّهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمّتهم بل هي مماثلة للإسلام، وهي الحنيفية الحقّ، إذ لا شكّ أنّ الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة، ألا ترى أنّ الخمر ما كانت محرّمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط، بل حرّمتها التّوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنّك بالنّبيء.
ولعلّ هذا هو المراد من وصيّة إبراهيم لبنيه بقوله: {فلا تموتُنّ إلاّ وأنتم مسلمون} [البقرة: 132] كما تقدّم هنالك.
وقد قال يوسف عليه السّلام في دعائه: {توفَّنِي مُسلمًا وألْحقني بالصّالحين} [يوسف: 101].
والمقصود من الوصف بقوله: {الّذين أسلموا} على هذا الوجه الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء. اهـ.

.قال القاسمي:

قال الناصر في الانتصاف: وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصلة والتوضيح، أن الأنبياء لا يكونون إلا متصفين بها. فذكر النبوة يستلزم ذكرها. فمن ثم حملها على المدح، وفيه نظر. فإن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه، والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم. ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلا مسلما؟ فإن أقل متبعيه كذلك.
فالوجه- والله أعلم- أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر. كما يكون ثبوتها بقدر موصوفها. فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها، وعلى هذا الوصف جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} وأمثاله تنويها بمقدار الصلاح. إذ جعل هذه صفة الأنبياء. وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} فأخبر عن الملائكة المقربين، بالإيمان تعظيما لقدر الإيمان وبعثا للبشر على الدخول فيه، ليساوور الملائكة في هذه الصفة. وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون. ولهذا قال: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} يعنى من البشر لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين الطائفتين. فكذلك- والله أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به. لقد أحسن القائل في أوصاف الأشراف، والناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام:
فلئن مدحت محمدا بقصيدتى ** فلقد مدحت قصيدتى بمحمد

. اهـ.